لا يـكــون المؤمن لعّــانـاً


بقلم سماحة السيّد جعفر فضل الله

لا يـكــون المؤمن لعّـاناً 
مقال نُشر في العدد 107 من مجلة الوحدة الإسلاميّة الصادرة في بيروت
(ذو القعدة ـ ذو الحجة 1431 هـ ) ـ (تشرين ثاني ـ نوفمبر 2010 م)
 
في ظلّ التعصّبات المذهبيّة بين المسلمين، وبين غيرهم أيضاً، يبرز السباب كوسيلة للتنفيس عن العقدة النفسيّة ضدّ الآخر عبر إلغاء من يسبُّه من دائرة قيمه التي شكّلها الإنسان لنفسه، من هذا المذهب أو ذاك.

ويأخذ اللعن أيضاً شكلاً من أشكال السباب الاجتماعي؛ باعتبار أنّ اللعن يدلّ بشكل غير مباشر على إخراج الملعون من دائرة القيمة الإسلاميّة، ويجعله في جُملة أصنافٍ أخرى، كالمنافقين أو الفاسقين أو الظالمين.

إذاً لا مجال هنا لاعتبار أنّ هناك فرقاً بين السباب واللعن من خلال اختلاف المفهوم، بحجّة أنّ اللعن يعني الإبعاد من الرحمة الإلهيّة والإخراج من الدائرة المنتمية إلى الله أو إلى الإسلام، والسباب استخدام ألفاظ يأبى العُرف والطبع الخلُقيّ تجاه المسبوب؛ فإنّ هذا وإن كان صحيحاً من حيثُ المفهوم، إلا أنّ نتيجتهما العمليّة واحدة على مستوى التعبير عن المعنى، كما أشرنا.
وليس من شكّ أنّ ازدياد منسوب الإثارة المذهبيّة، عبر أمثال هذه الوسائل، من شأنه أن يستبعد لدى الإنسان أيّ حسابٍ للقيمة لدى من يسبّه أو يلعنه، سواء في إيجابيّاته أو سلبيّاته، فلا يعود ينطلق في عمليّة تقويم لتلك الذات، بقدر ما ينطلق من حالة تنفيس إلغائيّة وتدميريّة للآخر.. ومن نتائج هذه الروح التدميريّة أنّ النفس لا تعود قابلة بالتصديق بأيّ منقبة لدى الطرف الآخر، وتكون أقرب إلى التصديق بأيّ شيء سلبيّ يعزّز من الخلفيّة التي ينطلق منها هذا الأسلوب، وهو الأمر الذي يدفعنا إلى مجانبة منطق العدالة الذي بيّنه الله تعالى في قوله: (ولا يجرمنّكم شنآن قومٍ على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) .

ما سنحاوله في هذه المقالة هو إرجاع هذا الموضوع إلى أدبيّاتنا الإسلاميّة؛ لأنّ ذلك هو معنى كوننا مسلمين، سواء كنّا سنّة أم شيعة. وهذا ما ربّما نفقده في كثير من مقارباتنا للأمور؛ لأنّ الحالة المذهبيّة عندما تغلب الشعور بالانتماء الإسلامي، فإنّها تستبعد أيّ قيمة إسلاميّة يُمكن أن تنفتح بالحالة المذهبيّة على الآخر المسلم؛ بل قد تبدأ لتغلّف القيمة الإسلاميّة بغلاف مذهبيّ، فيُصبح وكأنّ القرآن كلّه قد أنزل ليخاطب أتباع المذهب؛ فلا تعود ثمّة أخوّة إسلاميّة، ولا من إسلامٍ يجمع بين المسلمين، ولا من قرآن يوحّد رؤاهم ومفاهيمهم، ولا من سنّة يروون معظم أحاديثها، بل هناك مزق متنافرة، وقيم متمذهبة، إلى غير ذلك ممّا نمارسه في كثير من أوضاع حياتنا من حيث نشعر أو لا نشعر.

القرآن لعن.. فلماذا لا نلعن؟!

قد يستدلّ أصحاب فكرة جواز اللعن أو اندراجه ضمن المنظومة الإسلاميّة للتعبير عن الالتزام الإيماني، بأنّ في القرآن الكريم آيات عديدة لعنت فئات من الناس، وبالتالي فما هو المانع إذا كان اعتقادنا باندراج شخص ما ضمن هذه الفئات أن نمارس اللعن ضدّه؟!

ومن ذلك قوله تعالى: (إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفّار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) ، (كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أنّ الرسول حقّ وجاءهم البيّنات والله لا يهدي القوم الظالمين، أولئك جزاؤهم أنّ عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) ، (فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم وجعلنا قلوبهم قاسية..) ، (فأذّن مؤذّين بينهم أن لعنة الله على الظالمين) ، إلى غير ذلك من الآيات.

ولكنّ هذا القياس غير سديد، وذلك من عدّة جهات:

أوّلاً: أنّ لعنَ الله سبحانه وتعالى لخطّ فكريّ أو عمليّ معيّن لا يُقاس عليه فعل العباد كما هو واضح؛ لأنّ الآيات بصدد إبعاد الناس عن الخطّ والفكرة، وهذا ما يصرفها عن أن تكون بصدد إعطاء حكم بالجواز لممارسة طقوسيّة للعن، ولا سيّما عندما يكون للعن آثاره النفسيّة والاجتماعية التي لا تنسجم مع ما يريده الله تعالى للإنسان المؤمن والمسلم؛ وهذا ما يجعل هذه الآيات أجنبيّة عن المقام، وغير قابلة للقياس عليها.

ثانياً: أنّ قوله تعالى: (ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدواً بغير علمٍ كذلك زيّنا لكلّ أمّة عملهم) يعطي القاعدة بأنّ سبّ الآخر يستدعي سبّ الآخر لك، والسبب في ذلك أنّ لكلّ إنسان مقدّساته وهو قوله تعالى (كذلك زيّنا لكل أمّة عملهم) ، وطالما أنّ لعن الخطّ ليس كلعن الشخص، الذي هو من المختلف عليه، فهذا يعني أنّ مناط السبّ واللعن في ذلك واحد، وخصوصاً أنّ اللعن أصبح يختزن السبّ بفعل تطوّر الدلالات اللغويّة الاجتماعية ـ كما أشرنا سابقاً ـ.

وينبغي هنا أن نتوقّف عند دلالة هذه الآية؛ فنحن لا نرمي منها الاستدلال على أنّ المسألة خاضعة لمنطق الفعل وردّه، بل للإشارة إلى القيمة التي يرتكز عليها الخُلُق الذي تبيّنه الآية، وهي ضرورة وعي أنّ لكل جماعة أو فئة مقدّساتها ورموزها التي لا تقبل بالمساس بها؛ فإذا انطلق الإنسان ليمسّها فإنّ ذلك سيجنّب الخطاب صورته العقلانيّة، وسيؤدّي إلى تدمير كلّ المقدّسات في نهاية المطاف.

إذاً الآية بصدد تقرير ضرورة الانطلاق من الخلفيّة العقلانيّة التي تحاور وتجادل من خلال ما يختزنه الواقع من إيجابيّات وسلبيّات، وأن تبتعد عن منطق الإثارة الذي يجتذب ردّات فعل غير محسوبة بشكل وبآخر.

ثالثاً: قد وردت هناك أحاديث كثيرة عن نبيّنا محمّد (ص) تؤكّد على رفض مبدأ اللعن كخطّ أخلاقيّ، وكذلك السبّ والشتم، وهذه جملة منها: "سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر"، "لا يكون المؤمن لعّاناً"، "إنّي لم أُبعث لعّاناً وإنمّا بعثت رحمة"، و"لعن المؤمن كقتله"؛ ومثل هذه الأحاديث لا يُمكن للمسلم تجاوزها، وهي واضحة الدلالة على رفض هذا المبدأ من أساسه، والإشارة إلى كونه منافياً لأخلاقيّات الإنسان المؤمن.

رابعاً: في نهج البلاغة كلمة لافتة للإمام عليّ (ع)، وذلك لمّا سمع قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشام بصفّين: "إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكن لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، لكان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إيّاهم: اللهمّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتّى يعرف الحقّ من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به" ، ممّا يعني رفض أن يكون المسلم ذا روح تدميريّة، بل لا بدّ أن تكون روحه هادية منفتحة، إذا رأت موقعاً للخير لدى الطرف الآخر تمسّكت به حتّى تقرّبه إلى هداها الذي تعتقد.. وهذه الروح هي روح الرساليّين الذين لا يقيمون الحواجز بينهم وبين الطرف الآخر؛ وهذا ما للأسف ما بتنا نخالفه، فليست روحنا اليوم روحاً رساليّة ترصد مواقع التعاون على البرّ والتقوى لتشمّر عن ساعدها لتحقيق نتائجها في الواقع، بل هي روح متعصّبة تأتمّ بإبليس؛ لأنّه "إمام المتعصّبين" ، وهذا ما ابتعد بنا ـ كمسلمين ـ عن تحقيق التماسك لمجتمعنا الإسلامي، وشرّعنا أبوابنا للاعبين والعابثين، من حكّام ظلمة أو من مستكبرين كفرة، ليعبثوا بواقعنا وأمننا وسلامنا الاجتماعي، حتّى بات غير المسلم أقرب إلينا من المسلم، مع كثرة الفوارق؛ وربّما يكون هذا طبيعيّاً عندما يبتعد المسلمون عن تجسيد القيم الإسلاميّة في الواقع.

خامساً: إنّ كلمة الإمام عليّ (ع) السابقة، وقبل ذلك ما أكّد عليه القرآن الكريم من ضرورة دراسة التاريخ من أجل العبرة، لا يُمكن أن تدفعنا إلى إجراء تسويات للتاريخ الإسلامي باسم الوحدة الإسلاميّة؛ لأنّ الوحدة لا تعني أن يتنازل كلّ فريق عن قناعاته، بل تفرض الحوار في هذه القناعات على أساس المنطق العلمي في دراسة الأمور، والابتعاد عن الأخذ بالوسائل غير المنسجمة مع الدين والشرع في التعبير عن الخلاف. وهنا لا بدّ من التأكيد على أنّ التاريخ ليس مسرحاً لنتاجنا في الحاضر، بل هو قاعدة لأخذ العبرة للحاضر، وإلا فرموز التاريخ قد أنتجت عبر اختبارها لمدى تجسيدها للإسلام وارتحلت عن الدنيا، وبقي علينا نحن أن ننتج على قاعدة الإسلام، وسنحاسَب على فعلنا لا فعلهم، وعلى ما نحقّقه لا على ما حقّقوه، فضلاً عمّا أخفقوا فيه وأخطأوا؛ وقد قال تعالى: (تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عمّا كانوا يعملون) .

أخيراً: لا شكّ أن هناك ركاماً من التراث الإسلامي لدى الفريقين ممّا تضمّن اللعن والسبّ والتكفير وما إلى ذلك، وهذا ما ينبغي أن يُدرس بعناية؛ لأنّه لا يصحّ لنا اليوم، باسم الاختلاف المذهبي، أن نتجاوز المنهج العلمي الذي يحتّم علينا تحصيل الوثوق بما يرد علينا من روايات أو زيارات أو غير ذلك ممّا نجد أنّه قد يصطدم بقواعد أخلاقيّة أو شرعيّة؛ هذا فضلاً عن ضرورة التوفّر على أبحاث ودراسات نقديّة للروايات التي قد يظهر أنّها تخاطب العقل المذهبيّ أكثر ممّا تخاطب العقل الإسلامي، خصوصاً مع وجود روايات عديدة تخالف ذاك الخطاب، ولا سيّما عن أهل البيت (ع) الذين عملوا جاهدين على تقريب المسلمين بعضهم من بعض.

إنّ من الواضح أنّ هدف الإنسان الرسالي المسلم هو في اجتذاب الناس إلى خطّه وفكره الذي يراه صواباً، ومن وسائل ذلك ما أكّده الإمام عليّ (ع) في قوله: "احصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك" ، وموانع الحوار شرّ، والحقد الأعمى شرّ، والتعصّب بعيداً عن الحقّ شرّ؛ والله من وراء القصد.

2 التعليقات:

إنسان يقول...

نتفق معك أن اللعن قبيح ولكن ليس دائماً

فعندما يتعدى أحد على حرمة الإمام الحسين ويقطع جسده ويحمل رأسه ويدوس صدره بحوافر الخيل عامداً عالماً

فأنا كمحب توجد في قلبي حرارة كما يروى : ان لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد ابداً

فأنا من منطلق الحرارة - وهي إيمانية - أطلب من الله أن يضاعف عذابه على أولئك الذين ظلموه وسفكوا دمه

إن لعن أعداء اهل البيت (وليس المخدوعين من ابناء المذاهب وهم كأهل الشام مخدوعين) هو من ضروريات التشيع

وإلا فلست محباً لهم

من أحب الحسين أبغض يزيد
من أحب الحسين صلى عليه ومن أبغض يزيد لعنه

فتأمل التوازم في القلب (الحب ينتج الترحم والصلاة والبغض ينتج اللعن وتمني الألم للمبغوض)

من أحب الدنيا أبغض الآخرة والعكس


والبغض له درجات قد ترقى إلى درجة الدعاء عليه (اللعن)

ولايوجد حب إلا ومعه بغض

وبخصوص السب فإني عندما أصف يزيد بشضارب الخمر أو الفاسق فإن هذا سب في محله

أما عندما يصل الأمر إلى تفرقة الأمة فهذا عنوان ثانوي

وليكن اللعن في الوسط الشيعي وليحترم الآخرين خصوصيتنا على أن لا نزعجهم

وكل مودة مبنية على غير ذات الله ضلال والاعتماد عليها محال (تود السنة مثلا فتلغي لأجلهم بعض عقائدنا التي تزعجهم)

Painter يقول...

انتم تناقدون انفسكم و تسبون و تلعنون اصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم، و انا اذكر نفسى و اياكم بتقوى الله و ان ترجعوا عما تفعلون فتوبوا الى بارئكم ولا تكونوا كالجهلاء الذين يأخذون دينهم و عقيدتهم من اكاذيب افتراها السبأية، يقول الله عز و جل" { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا }

إرسال تعليق